فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 11):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
يقول تعالى مُذكرًا عباده المؤمنين نعمتَه عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه، فقال تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عند إسلامهم، كما قالوا: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وأثرةً علينا، وألا ننازع الأمر أهله»، وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 8] وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقيل: هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] قاله مجاهد، ومُقَاتِل بن حَيَّان. والقول الأول أظهر، وهو المحكي عن ابن عباس، والسُّدِّي. واختاره ابن جرير.
ثم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال.
ثم أعلمهم أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر والسرائر من الأسرار والخواطر، فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} أي: كونوا قوامين بالحق لله، عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل لا بالجور. وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نَحْلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: «أكل ولدك نحلت مثله؟» قال: لا. قال: «اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم». وقال: «إني لا أشهد على جَوْر». قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة.
وقوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} أي: لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوًا؛ ولهذا قال: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: عَدْلُكم أقرب إلى التقوى من تركه. ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في نظائره من القرآن وغيره، كما في قوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]
وقوله: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفَظُّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر؛ ولهذا قال بعده: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي: لذنوبهم {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وهو: الجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم، بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسبابًا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة.
ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهذا من عدله تعالى، وحكمته وحُكْمه الذي لا يجور فيه، بل هو الحَكَمُ العدل الحكيم القدير.
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتَفَرّق الناس في العضَاه يستظلون تحتها، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله»! قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الله»! قال: فَشَام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خَبَرَ الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه- وقال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية.
وقصة هذا الأعرابي- وهو غَوْرَث بن الحارث- ثابتة في الصحيح.
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم فأوحى الله تعالى إليه بشأنهم، فلم يأت الطعام، وأمر أصحابه فلم يأتوه رواه ابن أبي حاتم.
وقال أبو مالك: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يَغْدروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار كعب بن الأشرف. رواه ابن أبي حاتم.
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار، ومجاهد وعكْرِمَة، وغير واحد: أنها نزلت في شأن بني النَّضير، حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحَى، لما جاءهم يستعينهم في ديَةِ العامرييْن، ووكلوا عمرو بن جَحَّاش بن كعب بذلك، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله رسوله على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، فأنزل الله تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم فحاصرهم، حتى أنزلهم فأجلاهم.
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني: من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
لما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعَمَه عليهم الظاهرة والباطنة، فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} يعني: عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه.
وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى، عليه السلام، لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم النقباء، من كل سبط نقيب- قال محمد بن إسحاق: فكان من سبط روبيل: شامون بن زكور، ومن سبط شمعون: شافاط بن حُرّي، ومن سبط يهوذا: كالب بن يوفنا، ومن سبط أبين: فيخائيل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط أفرايم: يوشع بن نون، ومن سبط بنيامين: فلطمى بن رفون، ومن سبط زبلون جدي بن سودى، ومن سبط يوسف وهو منشا بن يوسف: جدي بن سوسى، ومن سبط دان: حملائيل بن جمل، ومن سبط أسير: ساطور بن ملكيل، ومن سبط نفتالي نحى بن وفسى، ومن سبط جاد: جولايل بن ميكي.
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم، قال فيها: فعلى بني روبيل: الصوني بن سادون، وعلى بني شمعون: شموال بن صورشكي، وعلى بني يهوذا: يحشون بن عمبيا ذاب وعلى بني يساخر: شال بن صاعون، وعلى بني زبلون: الياب بن حالوب، وعلى بني يوسف إفرايم: منشا بن عمنهود، وعلى بني منشا: حمليائيل بن يرصون، وعلى بني بنيامين: أبيدن بن جدعون، وعلى بني دان: جعيذر بن عميشذي، وعلى بني أسير: نحايل بن عجران، وعلى بني حاز: السيف بن دعواييل، وعلى بني نفتالي: أجزع بن عمينان.
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة، كان فيهم اثنا عشر نقيبًا، ثلاثة من الأوس وهم: أسيد بن الحُضَيْر، وسعد بن خَيْثَمَة، ورفاعة بن عبد المنذر- ويقال بدله: أبو الهيثم بن التيهان- رضي الله عنهم، وتسعة من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زُرَارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العَجْلان والبراء بن مَعْرور، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عُبَادة، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام، والمنذر بن عَمْرو بن خُنَيس، رضي الله عنهم. وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له، كما أورده ابن إسحاق، رحمه الله.
والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وهم الذين ولوا المبايعة والمعاقدة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن زيد، عن مُجالد، عن الشعبي، عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله: ما سألني عنها أحد منذ قدمتُ العراق قبلك، ثم قال: نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل».
هذا حديث غريب من هذا الوجه وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سَمُرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا». ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عَلَيّ، فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كلهم من قريش».
وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نَسَق، وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس. ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره: أنه يُواطئُ اسمُه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدْلا وقِسْطًا، كما ملئت جَوْرا وظُلْمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سَامرّاء. فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هَوَسِ العقول السخيفة، وَتَوَهُّم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض، لجهلهم وقلة عقلهم. وفي التوراة البشارة بإسماعيل، عليه السلام، وأن الله يقيم من صُلْبِه اثني عشر عظيما، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود، وجابر بن سَمُرة، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلا وسَفَها، لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} أي: بحفظي وكَلاءتي ونصري {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} أي: صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وهو: الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته {لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي: ذنوبكم أمحوها وأسترها، ولا أؤاخذكم بها {وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: أدفع عنكم المحذور، وأحصل لكم المقصود.
وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده وتوكيده وشدَه، وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه، فقد أخطأ الطريق الحق، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} أي: فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي: فسدت فُهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذًا بالله من ذلك، {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: وتركوا العمل به رغبة عنه.
قال الحسن: تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها.
وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة.
{وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} يعني: مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك.
وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي، صلى الله عليه وسلم.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني به: الصفح عمن أساء إليك.
وقال قتادة: هذه الآية {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} منسوخة بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أي: ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام، وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، أي: ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود؛ ولهذا قال: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا؛ فكل فرقة تُحَرم الأخرى ولا تدعها تَلجُ معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ثم قال تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب، عز وجل، وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا، من جعلهم له صاحبة وولدا، تعالى الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفوًا أحد.